المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين , سيدنا محمد r تسليماً كثيراً , وبعد .
فتظهر أهمية الحديث عن دور الأسرة في منع الإعاقة ورعاية ذوي الاحتياجات الخاصة ( المعاقون ) إذا ما عرفنا حجم المشكلة , إذ تدل الإحصاءات والتقارير التي دونت في هذا الصدد أن هؤلاء يشكلون نسبة تقدر عالمياً بحوالي 3% – 10% في أي مجتمع . ([1])
وإن أكثر ما تكون الإعاقة منهم بفقد الحواس ( السمع والبصر والنطق ) حيث يكون الصمم والعمي والبكم , والمفهوم القرآني لهذه الحواس لا يقيس سلامتها بصحتها الجسمية , وإنما , بأداء وظيفتها في الهداية الربانية , فمن يتمتع بحاسة السمع هو من يسمع الحق ويتدبر ما فيه ويؤمن به , ومن يتمتع بحاسة البصر , هو من يري آيات الله في الخلق ودلائل قدرته في ذلك , فتمتلك عليه لبه , ومن يتمتع بحاسة النطق هو من يستشعر نعمة الخالق عليه , فيصونها من الفحش في لقول واللغو في الحديث , والمعاق حقاً وفق المفهوم القرآني هو الذي لا تهديه حواسه إلي الله تعالي , بل هو أحط شأناً من البهائم التي آتاها الله هذه الحواس ولم يؤهلها التعقل والفهم والتدبر . ([2]) قال الله تعالي : ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) ([3]) .
وبناء علي هذا الفهم , فإن الإعاقة الفسيولوجية بفقد السمع أو البصر أو الحركة للمسلم لا تصبح سجناً بحبسه عن العالم الذي يعيش فيه ([4]) , ولنا في صحابة رسول الله r أسوة حسنة , فقد خرج الأنصار وبنو سلمة قوم عمرو بن الجموح مع رسول الله r وأراد عمرو أن يخرج إلي ساحة الجهاد , فمنعه بنوه , وقالوا : عذرك الله , فأتي رسول الله r يشكوهم , فقال : ” لا عليكم أن لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة ” وانفرجت أسارير عمرو بن الجموح برخصة رسول الله r بالجهاد , وانطلق إلي زوجه , وحمل سلاحه , ثم خرج , وهو يقول : ” والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة ” وتوجه إلي الله بكل جوارحه , وأقبل علي القبلة , وقال : ” اللهم ارزقني الشهادة , ولا تردني إلي أهلي خائباً ” ([5]) .
وعن ابن مسعود t أنه كان يجتني سواكاً من الأراك , وكان دقيق الساقين , فجعلت الريح تكفؤه , فضحك القوم منه , فقال رسول الله r : ” مم تضحكون ؟ قالوا : يا نبي الله , من دقة ساقيه , فقال r : ” والذي نفسي بيده , لهما أثقل في الميزان من أحد ” ([6]) .
وصاحب الإعاقة مكرم كالخالي منها قال تعالي : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) ([7]) .
وهذا التكريم يوجب علي المجتمع أن ينظر إلي كل فرد من أفراده نظرة احترام ورعاية اتباعاً لهذه الآية الكريمة , لا يمنعه من ذلك عائق أصابه .
ولهذا حرم الإسلام اللمز والغمز لأنهما يتنافيان مع هذا التكريم , قال الله تعالي : ( وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ ) ([8]) .
وروي عن أنس بن مالك أنه مر رجل برسول الله r , فقال رجل من الحاضرين يا رسول الله , هذا مجنون , فأقبل النبي r علي هذا الرجل , فقال : أقلت مجنون ؟ إنما المجنون المقيم علي معصية الله ولكن هذا مصاب ” ([9]) .
ويروي أن عيسي u قال : ” عالجت الأكمه والأبرص ف, فأبرأتهما , وعالجت الأحمق , فأعياني ” ([10]) .
وقصة نزول سورة (عبس) علي سيدنا محمد r تدلي علي أن القيم الإنسانية أولي , وأهم من إسلام صناديد قريش , قال تعالي :
( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ) ([11]) .
وهذه المرة الأولي التي يعاتب الله رسوله r بـ( كلاّ ) فهي ردع علي المعاتب عليه وعن معاودة مثله , وقد كانت هذه السورة سبباً في تكريم محمد r لعبد الله بن أم مكتوم الرجل الأعمي الفقير ([12]) , فكان كلما رآه يقول له : ” مرحباً بمن عاتبني فيه ربي ” وكان يستخلفه في المدينة في عامة غزواته يصلي بالناس ” ([13]) .
والإسلام دين الرحمة للناس كافة , قال تعالي : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ([14]) وقال تعالي : ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) ([15]) , وقال تعالي : (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ) ([16]) وقال تعالي : ( وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) ([17]) . وقال r : ” الراحمون يرحمهم الرحمن , ارحموا من في الأرض , يرحمكم من في السماء ” ([18]) وقال r : ” من لا يرحم الناس لا يرحمه الله ” ([19]) وقال r : ” لا تنزع الرحمة إلا من شقي ” ([20]) .
وهو دين الرحمة بالمخلوقات الأخرى يدل علي ذلك : ما رواه بن عمر y عن النبي r قال : خلت امرأة النار في هرة ربطتها , فلم تطعمها , ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض ” ([21]) وما رواه أبو هريرة t ” بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش , فوجد بئراً , فنزل فيها , فشرب , ثم خرج , فإذا كلب يلهث يأكل الثري , فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش , مثل الذي بلغ مني , فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه فسقي الكلب , فشكر الله له , فغفر له .
قالوا : يا رسول الله , وإن لنا في البهائم لأجراً ؟ فقال : في كل ذات كبد رطبة أجر ” ([22]) .
وعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال : ثم كنا مع رسول الله في سفر , فانطلق لحاجته فرأينا حمرة ( طائر صغير ) معها فرخان فأخنا فرخيها فجاءت الحمرة , فجعلت تفرش , ( ترفرف ) فجاء النبي r فقال : من فجع هذه بولدها , ردوا ولدها إليها , ورأي قرية نمل قد حرقناها , فقال , من حرق هذه ؟ قلنا : نحن , قال : ” إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار ” ([23]) .
وإذا كان الإسلام يدعو إلي الرحمة بالحيوانات والطيور والحشرات , فمن باب أولي أن يرحم الإنسان سواء أكان معاقاً أم غير معاق , ومن قبيل الرحمة بالمعاق قيام الأسرة بما يجب عليها من دور هام نحوه .
وهذا الدور لن يحقق الأهداف المرجوة منه إلا إذا تجملت الأسرة والمعاق بالصبر الجميل , لينالوا الأجر العظيم جزاء ذلك : قال الله تعالي : ( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) ([24]) وقال تعالي : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) ([25]) .
وقوله r : ” عجباً لأمر المؤمن , إن أمره كله له خير , وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن : إن أصابته سراء شكر , فكان خيراً له , وإن أصابته ضراء صبر , فكان خيراً له ” ([26]) .
وقوله r : ” ما ابتلي الله عبداً ببلاء , وهو علي طريقة يكرهها إلا جعل الله ذلك البلاء له كفارة وطهوراً , ما لم ينزل ما أصابه من البلاء بغير الله عز وجل , أو يدعو غير الله في كشفه ” ([27]) .
وقوله r : ” من يرد الله به خيراً , يصب منه ” ([28]) وقوله r : ” ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقي الله غير وارد , وما عليه خطيئة ” ([29]) .
ولعل هذا البحث يضع الأسس الصالحة لدور الأسرة في منع الإعاقة ورعاية ذوي الاحتياجات الخاصة كي تهتدي بها الأسر في مجتمعاتنا كافة وذلك وفق الخطة التالية :
المقدمة
المبحث الأول : التعريف بالإعاقة وأنواعها وأسبابها .
المبحث الثاني : دور الأسرة في منع الإعاقة .
المطلب الأول : دور الأسرة الوقائي في منع الإعاقة قبل حدوثها .
الفرع الأول: دور الأسرة في التحكم في الأمراض الوراثية قبل الزواج
الفرع الثاني : دور الأسرة في التحكم في الأمراض الوراثية بعد
الزواج وقبل الحمل .
المطلب الثاني : دور الأسرة في منع الإعاقة بعد حدوثها عن طريق الإجهاض .
الفرع الثاني : دور الأسرة في منع الإعاقة بعد حدوثها عن طريق التحكم في صفات الجنين للعلاج .
المبحث الثالث : دور الأسرة في رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة .
النتائج والتوصيات .
وفيما يلي بيان ذلك فأقول :
[1] أنظر : برنامج تدريب العاملين في رياض الأطفال , 1998 – 1999 م , وزارة التربية والتعليم في المملكة الأردنية الهاشمية , المادة التدريبية , طفل الروضة ذو الاحتياجات الخاصة , فريد الخطيب وزملاءه ص 2 .
[2] في بيتنا معاق , د. محمد عتيق وعبد الستار أبو حسين , مقال منشور في مجلة الأسرة , العدد 36 , ربيع الأول 1417هـ , آب 1996 م ص 12 .
[3] سورة الأعراف : الآية 179 .
[4] في بيتنا معاق , د. محمد عتيق وعبد الستار أبو حسين , المرجع السابق , ص 12 .
[5] سيرة ابن هشام ( السيرة النبوية ) 2/91 دار الكنوز الأدبية وأسد الغابة في معرفة الصحابة , ابن الأثير 3/705 , دار الفكر , 1409 هـ .
[6] رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده 7/98 حديث (3911) وقال محققه : صحيح لغيره , مؤسسة الرسالة , بيروت , ط1 , 1416هـ – 1996 .
[7] سورة الإسراء : آية 70 .
[8] سورة الحجرات : آية 11 .
[9] موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف , محمد السعيد بسيوني زغلول م3/520 ( نقلاً عن المسانيد , مخطط في مصر 2/696 ) , دار الكتب العلمية , بيروت .
[10] رعاية المعوقين في الإسلام , د. عبد الستار أبو غدة , ص 116 مجلة المسلم المعاصر , العدد 34 ربيع الثاني , 1403هـ , فبراير 1983م .
[11] سورة عبس : الآيات 1-11 .
[12] في بيتنا معاق , د. محمد عتيق وعبد الستار أبو حسين , مرجع سابق , ص13 .
[13] أنظر المرجع السابق ( في بيتنا معاق ) ص 13 , وتفسير القرآن العظيم لإسماعيل بن عمر بن كثير , 4/471-472 , دار الفكر , بيروت , وشرح الزرقاني علي موطأ الإمام مالك لمحمد بن عبد الباقي الزرقاني 2/22 , دار الكتب العلمية , بيروت , ط1 , والتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد , أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر 22/324 – 326 , وزارة عموم الأوقاف والشئون الإسلامية تحقيق مصطفي بن أحمد العلوي ومحمد عبد الكريم البكر , المغرب .
[14] سورة الأنبياء : آية 107 .
[15] سورة الأعراف : آية 156 .
[16] سورة غافر : آية 7 .
[17] سورة المؤمنون : آية 118 .
[18] أخرجه الترمذي في سننه بشرح تحفة الأحوذي 6/51 , دار نشر محمد عبد المحسن الكتبي , ط2 , 1385هـ الفجالة الجديدة , القاهرة .
[19] أخرجه الترمذي في سننه بشرح تحفة الأحوذي 6/49 , المرجع السابق .
[20] أخرجه الترمذي في سننه بشرح تحفة الأحوذي 6/50 , المرجع السابق .
[21] أخرجه البخاري في صحيحه 3/1205 حديث (3140) دار ابن كثير , بيروت , 1987 م ومسلم في صحيحه 4/1760 حديث (2242) دار إحياء التراث العربي , بيروت , 1954م .
[22] أخرجه البخاري في الجامع المجامع الصحيح المختصر 2/870 حديث (2334) و 5/2238 حديث (5663) دار ابن كثير , اليمامة , بيروت , 1987 م ومسلم في صحيحه 4/1761 حديث (2241) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي , واللفظ للبخاري , دار إحياء التراث العربي , بيروت .
[23] أخرجه أبو داود في سننه 3/55 حديث (2675) باب كراهية حرق العدو بالنار , وج4/367 حديث (5268) باب : في قتل الذر , تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد , دار الفكر .
[24] سورة البقرة : الآية 156 – 157 .
[25] سورة البقرة : الآية 153 .
[26] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 4/2295 حديث (2999) باب المؤمن أمره كله خير , دار إحياء التراث العربي , بيروت 1954م .
[27] المرض والكفارات , ابن أبي الدنيا , ص 51 , حديث (43) الدار السلفية , بومباي 1991 م والترغيب والترهيب للمنذري 4/141 حديث (5155) دار الكتب العلمية , بيروت , ط1 , 1417 هـ .
[28] أخرجه البخاري في صحيحه 5/2138 حديث (532) دار ابن كثير , بيروت , 1987 م .
[29] أخرجه الترمذي في سننه 4/602 حديث (2399) دار إحياء التراث العربي , بيروت , وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .